كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته فكان أسفله فرثًا وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقتسمها فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم. {سائغًا للشاربين} أي: سهل المرور في الحلق، وقيل: لم يغص أحد باللبن قط. تنبيه: قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرًا آخر بقلب ذلك الدم لبنًا ثم دبر تدبيرًا آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضًا أن يكون قادرًا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع وفي حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقًا لتغذية الطفل مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر وبيانه من وجوه: الأوّل أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذًا يخرج منه ثفل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شرابًا انطبق ذلك المنفذ انطباقًا كليًا لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصول الانطباق تارة والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. الثاني: عند تولد اللبن في الضرع يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقبًا صغيرة ومسامّ ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة، وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل فالحكمة في أحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة فكل ما كان لطيفًا خرج وكل ما كان كثيفًا احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصيراللبن خالصًا موافقًا لبدن الطفل سائغًا للشاربين. الثالث: أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
وقوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب} متعلق بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي: من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم عليه، وقوله تعالى: {تتخذون منه سكرًا} بيان وكشف عن كنه الإسقاء. قال الواحدي: الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى {ورزقًا حسنًا} كالتمر والزبيب والدبس والخل. تنبيه: في تفسير السكر وجوه: الأوّل: هو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرًا وسكرًا نحو: رشد رشدًا ورشدًا. فإن قيل: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله تعالى في معرض الأنعام؟
أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: أنّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكأنّ نزول هذه الآية كان في الوقت الذي كانت الخمرة فيه غير محرمة وممن قال بنسخها النخعي والشعبي. الثاني: أنّ الآية جامعة بين العتاب والمنة فالعتاب بالنسبة إلى السكر والمنة بالنسبة إلى رزقًا حسنًا. الوجه الثاني: أنّ السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر فإذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد فهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى حد السكر، ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئًا غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال: إنه النبيذ المطبوخ. الوجه الثالث: أنّ السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر:
جعلت إعراض الكرام سكرًا

أي تنقلب بإعراضهم بأن جعلتها نقلًا وتناولتها والنقل ما ينتقل به على الشراب. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن قوله تعالى: {تتخذون منه سكرًا} منسوخ انتهى، ويدل له قول الحسن: ذكر الله نعمته عليهم في الخمر قبل أن يحرّمها عليهم، وروي عن ابن عباس قال: السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما أحل من ثمرها، وروي عنه أيضًا السكر الحرام منه والرزق زبيبه وعنبه ومنافعه. ثم قال تعالى: {إنّ في ذلك} المذكور {لآية} أي: دلالة على قدرته تعالى: {لقوم يعقلون} أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات فيعلمون أنّ هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم، ولما بيّن أنّ إخراج الألبان وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ لهذا العالم إلهًا قادرًا مختارًا حكيمًا. ذكر أنّ إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحل دليل قاطع، وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود بقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} وحي إلهام. قال الضحاك: ألهمها ولم يرسل إليها رسولًا والمراد من الإلهام أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه: الأوّل: ما ذكر الله بقول تعالى: {أن اتخذي} أي: بأن اتخذي ويجوز أن تكون مفسرة لأنّ في الإيحاء معنى القول: {من الجبال بيوتًا} تأوين إليها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتًا تشبيهًا ببيت الإنسان، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرّد طبعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم، مثل تلك البيوت إلا بآلات وأنظار دقيقة. الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدّسات كأن كانت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال فإنه تبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب. الثالث: أنّ النحل يحصل بينها واحد كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه وذلك أيضًا من الأعاجيب.
الرابع: أنها إذا انفردت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات الموسيقى فبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها، وهذه أيضًا حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة كان ليس إلا على سبيل الإلهام وهو حالة شبيهة بالوحي، والوحي قد ورد في حق الأنبياء كقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب} [الشورى] وفي حق الأولياء قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين} [المائدة] وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى: {وأوحينا إلى أمّ موسى} [القصص] وفي حق سائر الحيوانات خاص. قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلًا لأنّ الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها، وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. واتخذي {من الشجر} أي: الصالحة بيوتًا واتخذي {مما يعرشون} أي: الناس فيبنون تلك الأماكن وذلك أنّ النحل منه وحشي وهو الذي يسكن الجبال والشجر والكهوف، ومنه أهليّ وهو الذي يأوي إلى البيوت وتربيه الناس عندهم وقد جرت العادة أنّ الناس يبنون للنحل الأماكن حتى يأوي إليها وذكر ذلك بحرف التبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من الكرم أو سقف ولا في كل مكان منها، وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بكسرها.
تنبيه:
ظاهر قوله تعالى: {اتخذي} أمر، وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول: لا بُعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا بدع أن يتوجه عليها من الله أمر ونهي، وقال آخرون: بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}. [النمل].
ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال: {ثم كلي من كل الثمرات} أي: من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها. تنبيه: لفظ من هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية، ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه نبه على خرقه العادة في تيسيره لها بقوله تعالى: {فاسلكي سبل ربك} أي: الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها وتدخلي فيها لأجل طلب الثمار وقوله تعالى: {ذللًا} جمع ذلول حال من السبل، أي: مسخرة لك فلا تعسر عليك وإن توعرت ولا تضلي عن العود وإن بعدت، وقيل: من الضمير في اسلكي، أي: منقادة لأربابها حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر حيث شاؤوا وأرادوا لا تستعصي عليهم، وقوله تعالى: {يخرج من بطونها} فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم {شراب} أي: عسل {مختلف ألوانه} ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ويستحيل في بطونها عسلًا بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب، وقال الرازي: إنه رأى في بعض كتب الطب أنّ العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدّخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل وأيضًا إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب، عن قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب} إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى بطنًافقوله: {يخرج من بطونها} أي: من أفواهها انتهى.
والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل وكذا توجد لذتها وريحها وطعمها فيه أيضًا، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم له: «أكلت مغافير؟ قال: لا، قالت: ما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحله العرفط»، والعرفط شجر الطلع له صبغ يقال له: المغافير كريه الرائحة، فمعنى جرست نحله العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلًا لكان على لون واحد وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطنًا خلاف الظاهر لأنّ لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف بطن الإنسان وغيره. {فيه} أي: الشراب الذي يخرج من بطون النحل {شفاء للناس} من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود، إمّا لبعضها كما دلّ عليه تنكير شفاء، وإمّا لكلها بضميمته إلى غيره إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل أو بدونه بنيته وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة، ويضرّ بالشباب المحرورين ويعطش. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور، وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل، وروى نافع أنّ ابن عمر ما كانت قرحة ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل، ويقرأ: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس}.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم: «اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع؟ فقال: اذهب فاسقه العسل فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه، فشفاه الله، فبرأ، فكأنما نشط من عقال» فقوله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي الإلهي، أنّ العسل الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال قال: صدق الله يعني فيما وعده من أنّ فيه شفاء للناس، وكذب بطن أخيك، يعني باستعجالكم للشفاء في أوّل مرّة، وقال مجاهد: الضمير في {فيه شفاء للناس} راجع للقرآن، لأنّ فيه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة، وهو هدى ورحمة للناس وعلى هذا تمت قصة تولد العسل من النحل عند قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه} ثم ابتدأ وقال: {فيه شفاء للناس} أي: في هذا القرآن. قال الرازي: وهذا قول ضعيف، ويدل عليه وجهان: الأوّل أنّ الضمير في قوله تعالى: {فيه شفاء للناس} يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله تعالى: {شراب مختلف ألوانه}، وأمّا الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب، والثاني: حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: المذكور {لآية لقوم يتفكرون} أي: في اختصاص النحل بتلك الطعوم الرقيقة واللطائف الخفية مثل بناء البيوت المسدسة وغير ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوّعها تارة بالعقل وتارة بالفكر وتارة بالذكر وتارة بغيرها. ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم ونبههم على عظيم غفلتهم ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك فقال: {والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئًا. {ثم يتوفاكم} أي: عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان فلا يقدر الصغير أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدّم فمنكم من يموت على حال قوّته. {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} أي: أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب سنّ الطفولية والنمو وهو أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سنّ الشباب، وبلوغ الأشدّ ثم المرتبة الثانية سنّ الوقوف وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة وهو غاية القوّة وكمال العقل والمرتبة الثالثة سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص لكنه يكون نقصًا خفيًا لا يظهر، ثم المرتبة الرابعة سنّ الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر خمسة وستون سنة يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة، وقال قتادة: تسعون سنة، وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات»، وفي رواية عنه كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات». {لكيلا يعلم بعد علم شيئًا} أي: ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة والعقل وسوء الفهم. تنبيه: هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر فيه قولان: أحدهما: أنه عامّ، والقول الثاني: أنه مختص إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يقال في حقه: إنه ردّ إلى أرذل العمر. قال الرازي: والدليل عليه قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [التين:] فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين، وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة، وقال في قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} هم الذين قرؤوا القرآن، وقال ابن عباس: قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهذا يؤيد ما مرّ. {إن الله عليم} بمقادير أعمارهم {قدير} يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ، ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال: {والله} أي: الذي له الأمر كله {فضل بعضكم} أيها الناس {على بعض في الرزق} فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلًا يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلًا وفهمًا تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيبًا وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيبًا علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} [الزخرف] فاتقوا الله وأجملوا في طلب الرزق وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار وأنشد سفيان بن عيينة يقول:
كم من قويّ قويّ في تقلبه ** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف

ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ** كأنه من خليج البحر يغترف

وحكي أنّ سليمان المهلبي أرسل إلى الخليل بن أحمد بمئة ألف درهم فردّها الخليل وكتب إليه هذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ** وفي غنى غير أني لست ذا مال

شحي بنفسي أني لا أرى أحدًا ** يموت جوعًا ولا يبقى على حال

فالعجز عن قدرها العجز ينقصه ** ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر في النفس لا في المال تعرفه ** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
ومن الدليل على القضاء وكونه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق